فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والناس تضع أسماء أولادها، فالأسماء مقدور عليها من البشر، ولكنك لا تجد كافرًا معاندًا محاربًا لدين الله عز وجل يسمى ابنه الله فالمؤمن لا يجرؤ على هذه التسمية لأنه يؤمن بالله، والكافر لا يجرؤ عليها أبدا بقدرة الله وقهره. لذلك فكلمة {سُبْحَانَهُ} ولفظ الجلالة الله لفظان يختص بهما الله وحده بالقدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى، وسبحانه القائل: {رَّبُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
إذن: فالله سبحانه وتعالى- بالقدرة والقهر- حجز ألسنة البشر جميعًا أن يقول أحدهم لأحد: سبحانك، أو أن يسمى أحد ابنه الله.
والله عز وجل يقول هنا: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وموقف المشركين وأهل الكتاب واقع تحت هذه الآية؛ لأن منهج السماء لا يأتي إلا إذا عَمَّ الفساد والله سبحانه وتعالى يريد من الإنسان الخليفة في الأرض أن يكون صالحًا ومصلحًا، وأقلُّ درجات الصلاح أن تترك الصالح فلا تفسده، فإن استطعت أن ترتقي به فهذا هو الأفضل. فإن كانت هناك بئر يشرب منها الناس، فالصلاح أن تترك هذه البئر ولا تردمها، والأصلح من ذلك أن تحمي جدرانها بالطوب حتى لا تنهار الأتربة وتسُدَّها، وأن تحاول أن تسهل حصول الناس على الماء من البئر، والأصلح منه أن تصنع خزانا عاليا، ومن هذا الخزان تمتد المواسير ليصل الماء إلى الناس في منازلهم بدون تعب، هذا إصلاح لأنك بذلك إنما تأخذ بأسباب الحق القائل عن تميز الفكر؛ عند ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 84-85].
أي: أن الله سبحانه وتعالى أعطى لذي القرنين الأسباب، وهو زَادَ باجتهاده أسبابًا أخرى؛ إذن: فالحق سبحانه يريد من الإنسان أن يُصْلح في الأرض حتى يسعد المجتمع بأي إصلاح في الأرض ويستفيد منه الكل، ولذلك يعطي الحق سبحانه وتعالى اختيارات في أشياء ولا يعطيها في أشياء أخرى، فالإنسان له اختيار في أن يصلي أو لا يصلي، يتصدق أو لا يتصدق، يعمل أو لا يعمل إلى آخر ما نعلمه، ولكن الكون الأعلى محكوم بالقهر، فالشمس والقمر والنجوم والهواء والماء وكل هذا له نظام دقيق، فلا الشمس ولا القمر ولا النجوم، ولا غيرها من الكون الأعلى يخضع لاختيار الإنسان، وإلا لفسد الكون. وكل شيء مقهور سليم بالفطرة ولا يحدث فساد إلا في الشيء الذي فيه اختيار للإنسان؛ لأن الاختيار قد يتبع الشهوة وهوى النفس، حتى المخلوقات المقهورة كالحيوانات التي سخرها الله للإنسان لا يأتي منها الشر. بل إن مُخلَّفاتها تُستخدم في زيادة خصوبة الأرض. ولكن الأشياء التي صنعها الإنسان ملأت أجواء الدنيا بالسموم ولوثت الجو؛ لأن الأولى مخلوقة بهندسة إلهية، والثانية بهندسة بشرية علم صانعها أشياء وغابت عنه أشياء.
وقد يعتقد الناس أن هناك بعضًا من الاكتشافات قد حلَّتْ مشكلات الكون، ثم بعد ذلك وعندما تمر السنوات يعرفون أنه جاءت بالشقاء للبشرية، ولعل تلوث البيئة الذي بدأ يؤثر على حياة الكون أخيرًا يلفتنا إلى ذلك، حتى إن الإنسان الذي قطع الأشجار وأزال الغابات التي خلقها الله في هذا الكون لتكون مصدرًا للهواء النقي وأنشأ بدلًا منها مصانع ومُدنًا؛ بدأ الآن يحاول أن يعيد زراعة هذه الأشجار بعد أن علم أن تدخله في الكون قد أفسد جَوّه وماءه وأفسد لمنهج الله تعالى لاستقام أمر الدنيا، كما استقام الكون الأعلى.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 1-7].
إذن: فالميزان للعلويات لا يختل أبدًا، فإذا عرفتم ذلك فنِّفذوا أمر الحق سبحانه وتعالى في قوله: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 8].
فإذا سرْتم على ضوء منهج الله تعالى، تستقيم أموركم الدنيا كما استقامت أموركم العليا، وها هو ذا الكون أمامكم يسير منضبطًا، وهذا شأن الشيء الذي فيه اختيار للإنسان؛ إنْ لم يسِرْ على منهج الله عز وجل تجدوه غير مستقيم. وعلى هذا إذا رأيت عورة في الكون من أي لون، فاعلم أن منهجًا من مناهج الله قد عُطِّل.
ولذلك نجد- أيضًا- أن المفسدين ساعة يرون أن مصلحًا قد جاء ليضرب على أيدي المفسدين، تجدهم يحاولون إفساده وجذبه إليهم ليعيش فسادهم، وإذا لم يتحقق لهم ذلك فهم يقفون أمام هذا المصلح لأنهم إنما يعيشون بالفساد وعلى الفساد، ويصنعون لأنفسهم السيادة والجبروت ويستعبدون غيرهم، وحين يرى المفسدون رجلًا يريد أن يعدل ميزان الكون فهم يحاربونه.
وأنت حين تشتري سلعة، فالبائع يزنُ لك بمقدار ما تدفع من ثمن، ويحتاج البائع إلى ميزان منضبط ليزنَ لك به ما تشتريه، فإن كان بائعًا مخادعًا، فهو يعبث بالميزان ليبيع لك الأقل بالثمن الأكبر، وليبخسك حقك. ومثل هذا البائع مثل المفسدين الذين يرهقهم أن يأتي مصلح يعيد ميزان الكون لما أمر الله عز وجل من إقامة العدل وإصلاح المعوج.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
أخرج ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} فقال: «أما أنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه».
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أبي البختري رضي الله عنه قال: سأل رجل حذيفة رضي الله عنه فقال: أرأيت قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه.
وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في شعب الإِيمان عن حذيفة رضي الله عنه {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم} قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم أطاعوهم في معصية الله.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه {اتخذوا أحبارهم} اليهود {ورهبانهم} النصارى {وما أمروا} في الكتاب الذي أتاهم وعهد إليهم {إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} سبح نفسه أن يقال عليه البهتان.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك رضي الله عنه قال: {أحبارهم} قراؤهم {ورهبانهم} علماؤهم.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج رضي الله عنه قال: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي. مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الفضيل بن عياض رضي الله عنه قال: الأحبار العلماء، والرهبان العباد. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
قوله تعالى: {والمسيح ابن مَرْيَمَ}: عطف على {رُهْبانَهم} والمفعول الثاني محذوف، إذ التقدير: اتخذ اليهود أحبارهم أربابًا، والنصارى رهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا، وهذا لأمْنِ اللَّبس خَلَط الضمير في {اتخذوا} وإن كان مقسمًا لليهود والنصارى، وهذا مراد أبي البقاء في قوله: أي واتخذوا المسيحَ ربًّا، فحذف الفعل وأحد المفعولين، وجَوَّز فيه أيضًا أن يكون منصوبًا بفعل مقدر أي: وعَبَدوا المسيح ابن مريم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
كما لا تجوز مجاوزة الحد في وَضْع القدْرِ لا تجوز مجاوزة الحد في رَفْع القَدْر، وفي الخبر: «أُمِرْنا أَنْ نُنْزِلَ الناسَ منازِلَهم».
فَمَنْ رأى من المخلوقين شظيةً من الإبداع أنْزَلَهم منزلةَ الأرباب، وذلك- في التحقيق- شِرْك، وما أخلص في التوحيد مَنْ لم يَرَ جميعَ الحادثات بصفاتها (....) من الله.
{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا}: فمن رفع في عقده مخلوقًا فوق قدره فقد أشرك بربِّه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (32):

قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وهى سبحانه أمرهم من جهة استنادهم، زاد توهية من جهة مرادهم بالإعلام بأنهم بقتالهم لأهل الطاعة إنما يقاتلون الله وأنه لا ينفذ غرضهم بل يريد غير ما يريدون، ومن المقرر أنه لا يكون إلا ما يريد، فقال مستأنفًا أو معللًا لما مضى من أقوالهم وأفعالهم: {يريدون أن يطفئوا} أي بما مضى ذكره من أحوالهم: {نور الله} أي دين الملك الأعلى الذي له الإحاطة العظمى، وشرعه الذي شرعه لعباده على ألسنة الأنبياء والرسل، كل ذلك ليتمكنوا من العمل بالأغراض والأهوية، فإن اتباع الرسل حاسم للشهوات، وهم أبعد الناس عن ذلك.
ولما حقر شأنهم، هدمه بالكلية بقوله: {بأفواههم} أي بقول خال عن شيء يثبته أو يمضيه وينفذه، وفي تسمية دينه نورًا ومعاندتهم إطفاء بالأفواه تمثيل لحالهم بحال من يريد إطفاء نور الشمس بنفخه {ويأبى} أي والحال أنه يفعل فعل الأبيّ وهو أنه لا يرضي {الله} أي الذي له جميع العظمة والعز ونفوذ الكلمة {إلا أن يتم نوره} أي لا يقتصر على مجرد إشراقه، بل وعد- وقوله الحق- بأنه لابد من إكماله وإطفائه لكل ما عداه وإحراقه.
ولما في يأبى من معنى الجحد دخل عليه الاستثناء، أي إنه يأبى كل حالة إلا حالة إتمامه نوره على التجدد والاستمرار {ولو كره الكافرون} أي العريقون في الكفر فكيف بغيرهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}
اعلم أن المقصود منه بيان نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنصارى، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة شرعه وقوة دينه، والمراد من النور: الدلائل الدالة على صحة نبوته، وهي أمور كثيرة جدًا.
أحدها: المعجزات القاهرة التي ظهرت على يده، فإن المعجز إما أن يكون دليلًا على الصدق أو لا يكون، فإن كان دليلًا على الصدق، فحيث ظهر المعجز لابد من حصول الصدق، فوجب كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقًا، وإن لم يدل على الصدق قدح ذلك في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام.
وثانيها: القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه من أول عمره إلى آخره ما تعلم وما طالع وما استفاد وما نظر في كتاب، وذلك من أعظم المعجزات.
وثالثها: أن حاصل شريعته تعظيم الله والثناء عليه، والانقياد لطاعته وصرف النفس عن حب الدنيا، والترغيب في سعادات الآخرة.
والعقل يدل على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه.
ورابعها: أن شرعه كان خاليًا عن جميع العيوب، فليس فيه إثبات ما لا يليق بالله، وليس فيه دعوة إلى غير الله، وقد ملك البلاد العظيمة، وما غير طريقته في استحقار الدنيا، وعدم الالتفات إليها، ولو كان مقصوده طلب الدنيا لما بقي الأمر كذلك، فهذه الأحوال دلائل نيرة وبراهين قاهرة في صحة قوله، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة، وأنواع كيدهم ومكرهم، أرادوا إبطال هذه الدلائل، فكان هذا جاريًا مجرى من يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها، وكما أن ذلك باطل وعمل ضائع، فكذا ههنا، فهذا هو المراد من قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} ثم إنه تعالى وعد محمدًا صلى الله عليه وسلم مزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة وكمال الرتبة فقال: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون}.
فإن قيل: كيف جاز أبى الله إلا كذا، ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيدًا؟
قلنا: أجرى (أبى) مجرى لم يرد، والتقدير: ما أراد الله إلا ذلك، إلا أن الإباء يفيد زيادة عدم الإرادة وهي المنع والامتناع، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن أرادوا ظلمنا أبينا». فامتدح بذلك، ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم، لأن ذلك يصح من القوي والضعيف، ويقال: فلان أبى الضيم، والمعنى ما ذكرناه، وإنما سمى الدلائل بالنور لأن النور يهدي إلى الصواب فكذلك الدلائل تهدي إلى الصواب في الأديان. اهـ.